فصل: تفسير الآية رقم (98):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {جَعَلَ اللَّهُ}: فيها وجهان:
أحدهما: أنها بمعنى «صَيَّرَ» فتتعدَّى لاثنين، أولهما {الكَعْبَة} والثاني {قِيَامًا}.
والثاني: أن تكون بمعنى «خَلَقَ»، فتتعدَّى لواحد، وهو {الكَعْبَة}، و{قِيامًا} نصبٌ على الحال، وقال بعضُهُمْ: إنَّ {جَعَلَ} هنا بمعنى «بَيَّنَ» و«حَكَمَ»، وهذا ينبغي أن يُحْمَلَ على تَفْسير المعنى لا تفسير اللغة؛ إذ لم ينقل أهلُ العربية؛ أنها تكونُ بمعنى «بَيَّنَ» ولا «حَكَمَ»، ولكن يلزمُ من الجَعْلِ البيانُ، وأمَّا {البَيْتَ}، فانتصابُه على أحد وجهين: إما البدلِ، وإما عطفِ البيان، وفائدةُ ذلك: أن بعض الجاهليَّة- وهم خَثْعَم- سَمَّوْا بيتًا الكعبة اليمانية، فجيء بهذا البدلِ، أو البيانِ، تبيينًا له من غيره، وقال الزمخشريُّ: {البَيْتَ الحَرَامَ} عطف بيانٍ على جهة المدحِ، لا على جهة التوضيحِ؛ كما تجيء الصفةُ كذلك، واعترض عليه أبو حيان بأن شرط البيانِ الجمودُ، والجمودُ لا يُشْعِرُ بمَدْحٍ، وإنما يُشْعِرُ به المشتقُّ، ثم قال: «إلاَّ أنْ يُريد أنه لَمَّا وُصِفَ البيْتُ بالحرامِ اقْتَضَى المجموعُ ذلك فيمكنُ».
والكَعْبَةُ لغةً: كلُّ بيْتٍ مربَّعٍ، وسُمِّيَت الكعبةُ كَعْبَةً لذلك، وأصل اشتقاق ذلك من الكعبِ الذي هو أحَدُ أعضاءِ الآدميِّ، قال الراغب: «كَعْبُ الرَّجُلِ» العَظْم الذي عند مُلْتَقى الساق والقَدَم، والكَعْبةُ كُلُّ بَيْتٍ على هَيْئَتِهَا في التَّرْبِيع، والعربُ تُسَمِّي كلَّ بَيْت مُرَبَّع كَعْبةً؛ لانفرادها من البِنَاءِ.
وقيل: سُمِّيَت كَعْبَةً لارتفَاعِهَا من الأرْض، وأصْلُها من الخُرُوج والارتِفَاع، وسُمِّيَ الكعبُ لِنُتُوئِهِ، وخُرُوجه من جَانِبي القَدم، ومنه قِيلَ لِلْجَارية إذا قاربتِ البُلُوغَ وخَرَجَ ثَدْياهَا تكعَّبَتْ والكعبة لمَّا ارتفع ذِكْرُها سُمِّيَتْ بهذا الاسْم، ويقولون لِمَنْ عَظُمَ أمْرُه «فلانٌ عَلاَ كَعْبُهُ» وذُو الكعبات: بيتٌ كان في الجاهلية لبني ربيعة، وتقدَّم الكلام في هذه المادةِ أول السورة [آية 6].
قوله: {قِيامًا} قراءة الجمهورُ بألفٍ بعد الياء، وابنُ عامرٍ: {قِيَمًا} دون ألف بزنة «عِنَبٍ»، والقيامُ هنا يحتملُ أن يكون مصدرًا لـ «قَامَ- يَقُومُ»، والمعنى: أنَّ اللَّهَ جَعَلَ الكعبةَ سَبَبًا لقيام النَّاسِ إليها، أي: لزيارتها والحجِّ إليها، أو لأنَّها يَصْلُح عندها أمرُ دينهِمْ ودُنْيَاهُمْ، فيها يَقُومُونَ، ويجوزُ أنْ يكونَ القيامُ بمعنى القوامِ، فقُلِبَتِ الواوُ ياءً؛ لانكسارِ ما قبلها، كذا قال الواحديُّ، وفيه نظرٌ؛ إذ لا موجبَ لإعلاله؛ إذ هو: «السِّوَاكِ»، فينبغي أن يقال: إنَّ القيامَ والقوامَ بمعنًى واحدٍ؛ قال: [الرجز]
قِوَامُ دُنْيَا وقِوَامُ دِينِ

فأمَّا إذا دخلها تاءُ التأنيث، لَزِمَتِ الياءُ؛ نحو: «القِيَامَة»، وأمَّا قراءةُ ابن عامر، فاستشكلها بعضُهم بأنه لا يَخْلُو: إمَّا أنْ يكون مصدرًا على فعلٍ، وإما أن يكون على فعالٍ، فإن كان الأوَّل، فينبغي أن تصِحُّ الواوُ كـ «حِوَلٍ» و«عوَرٍ»، وإن كان الثاني، فالقصر لا يأتي إلا في شِعْرٍ، وقرأ الجَحْدَرِيُّ: {قَيِّمًا} بتشديد الياء، وهو اسمٌ دالٌّ على ثبوت الصفة، وقد تقدَّم تحقيقُه أوَّلَ النساء [الآية 5].
قوله: {والشهر الحرام والهدي والقلائد} عطف على {الكَعْبَة}، والمفعول الثاني أو الحال محذوفٌ، لفهم المعنى، أي: جعل الله أيضًا الشَّهْرَ والهَدْيَ والقلائِدَ قِيَامًا.
قوله: {ذَلِكَ} فيه ثلاثةُ أوجه:
أحدها: أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أي: الحُكْمُ الذي حكمْنَاهُ ذلك لا غيرُه.
والثاني: أنه مبتدأ، وخبره محذوف، أي ذلك الحكمُ هو الحقُّ لا غيره.
الثالث: أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ يدُلُّ عليه السِّياقُ، أي: شَرَعَ اللَّهُ ذلك، وهذا أقواها؛ لتعلُّقِ لام العلَّة به، و{تَعْلَموا} منصوبٌ بإضمار «أن» بعد لام كَيْ، لا بها، و{أنَّ اللَّه} وما في حَيِّزها سادَّةٌ مَسَدَّ المفعولينِ أو أحدهما على حسبِ الخلافِ المتقدِّم، و{وَأَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} نسقٌ على «إنَّ» قبلها. اهـ. باختصار.

.تفسير الآية رقم (98):

قوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما أنتج هذا كله أنه على كل شيء قدير لأنه بكل شيء عليم، وكانت هذه الآية- كما تقدم- ناظرةً إلى أول السورة من آية {لا تحلوا شعائر الله} [المائدة: 2] وما بعدها أتم نظر، ذكر سبحانه ما اكتنف آية {حرمت عليكم الميتة} [المائدة: 3] من الوعيد الذي ختم به ما قبلها والوعد الذي ختمت هي به في هذه الآية على ترتيبه، سائقًا له مساق النتيجة والثمرة لما قبله، بيانًا لأن من ارتكب شيئًا من هذه المنهيات كان حظه، فقال محذرًا ومبشرًا لأن الإيمان لا يتم إلاّ بهما: {اعلموا أن الله} أي الذي له المعظمة كلها الذي نهاه عنها {شديد العقاب} فليكن عباده على حذر منه، وأن من أوقعه في شيء منها القدر، ثم فتح له التوفيقُ بابَ الحذر، فكفر فيما فيه كفارة وتاب، كان مخاطبًا بقوله: {وأن} أي واعلموا أن {الله} أي الذي له الجلال والإكرام مع كونه شديد العقاب {غفور رحيم} يقبل عليه ويمحو زلله ويكرمه، فكان اكتناف أسباب الرجاء سابقًا للإنذار ولاحقًا معلمًا بأن رحمته سبقت غضبه وأن العقاب إنما هو لإتمام رحمته، قال ابن الزبير: ثم قال: {جعل الله الكعبة} [المائدة: 97]- فنبه على سوء العاقبة في منع البحث على التعليل وطلب الوقوف على ما لعله مما استأثر الله بعلمه، ومن هذا الباب أتى على بني إسرائيل في أمر البقرة وغير ذلك؛ وجعل هذا التنبيه إيماء، ثم أعقبه بما يفسره {يا أيها الذين آمنوا لا تسئلوا عن أشياء} [المائدة: 101]- ووعظهم بحال غيرهم في هذا، وأنهم سألوا فأعطوا ثم امتحنوا، وقد كان التسليم أولى لهم، فقال تعالى: {قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين} [المائدة: 102] ثم عرّف عباده أنهم إذا استقاموا فلن يضرهم خذلان غيرهم {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم} [المائدة: 105]- انتهى. اهـ.

.قال الفخر:

لما ذكر الله تعالى أنواع رحمته بعباده، ذكر بعده أنه شديد العقاب، لأن الإيمان لا يتم إلا بالرجاء والخوف كما قال عليه الصلاة والسلام: «لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا» ثم ذكر عقيبه ما يدل على الرحمة وهو كونه غفورًا رحيمًا وذلك يدل على أن جانب الرحمة أغلب، لأنه تعالى ذكر فيما قبل أنواع رحمته وكرمه، ثم ذكر أنه شديد العقاب ثم ذكر عقيبه وصفين من أوصاف الرحمة وهو كونه غفورًا رحيمًا، وهذا تنبيه على دقيقة وهي أن ابتداء الخلق والإيجاد كان لأجل الرحمة، والظاهر أن الختم لا يكون إلا على الرحمة. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الألوسي:

{اعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب} وعيد لمن انتهك محارمه أو أصر على ذلك.
والعقاب كما قيل هو الضرر الذي يقارنه استخفاف وإهانة، وسمي عقابًا لأنه يستحق عقيب الذنب {وَأَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وعد لمن حافظ على مراعاة حرماته تعالى وأقلع عن الانتهاك.
ووجه تقديم الوعيد ظاهر. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{اعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب} استئناف ابتدائي وتذييل لما سبق من حظر الصيد للمحرم وإباحة صيد البحر والامتنان بما جعل للكعبة من النعم عليهم ليطمئنّوا لِما في تشريع تلك الأحكام من تضييق على تصرّفاتهم ليعلموا أنّ ذلك في صلاحهم، فذيل بالتذكير بأنّ الله منهم بالمرصاد يجازي كل صانع بما صنع من خير أو شر.
وافتتاح الجملة بـ{اعلموا} للاهتمام بمضمونها كما تقدّم عند قوله تعالى: {واتقوا الله واعلموا أنّكم ملاقوه} في سورة البقرة (223).
وقد استوفى قوله: {إن الله شديد العقاب} {وأن الله غفور رحيم} أقسام معاملته تعالى فهو شديد العقاب لمن خالف أحكامه وغفور لمن تاب وعمل صالحًا.
وافتتاح الجملة بلفظ {اعلموا} للاهتمام بالخبر كما تقدّم عند قوله تعالى: {واعلموا أنّكم ملاقوه} في سورة البقرة (223). اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)}.
شديد العقاب للأعداء، غفور رحيم للأولياء.
ويقال شديد العقاب للخواص بتعجيل الحجاب إنْ زاغُوا عن الشهود لحظةً، غفور رحيم للعوام إن رجعوا إليه بتوبة وحسرة. اهـ.

.من فوائد الشعراوي:

{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)}.
أي تيقظوا لأحكام الله، وكونوا طوع ما يريد، فمن يخالف الله فعليه أن يعرف أنه سبحانه وتعالى شديد العقاب. ومن كان يطيع الله فليعلم أنه سبحانه غفور رحيم. وجاء سبحانه بصفة من صفات الجلال لتتقابل مع صفتين من صفات الجمال، فصفة: {شَدِيدُ العقاب} تتقابل مع صفتي: {غَفُورٌ رَّحِيمٌ}؛ لأن كل الناس ليسوا أخيارًا، وكل الناس ليسوا أشرارًا؛ لذلك جاء للأخيار بما يناسبهم من المغفرة والرحمة، وجاء للأشرار بما يناسبهم من شدة العقاب، وغلبت رحمته ومغفرته غضبه وعقابه، ونلحظ ذلك من مجيء صفة واحدة من صفات الجلال: {شَدِيدُ العقاب} ويقابلها صفتان من صفات الجمال وهما: {غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. اهـ.

.تفسير الآية رقم (99):

قوله تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما رغب سبحانه ووهب، علم أنه المجازى وحده، فأنتج ذلك أنه ليس إلى غيره إلاّ ما كلفه به، فأنتج ذلك ولابد قوله: {ما على الرسول} أي الذي من شأنه الإبلاغ {إلا البلاغ} أي بأنه يحل لكم الطعام وغيره ويحرم عليكم الخمر وغيرها، وليس عليه أن يعلم ما تضمرون وما تظهرون ليحاسبكم عليه {والله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلمًا {يعلم ما تبدون} أي تجددون إبداءه على الاستقرار {وما تكتمون} من إيمان وكفر وعصيان وطاعة وتعمد لقتل الصيد وغيره ومحبة للخمر وغيرها وتعمق في الدين بتحريم الحلال من الطعام والشراب وغيره إفراطًا وتفريطًا، لأنه الذي خلقكم وقدّر ذلك فيكم في أوقاته، فيجازيكم على ما في نفس الأمر، من عصي أخذه بشديد العقاب، ومن أطاعه منحه حسن الثواب، وأما الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يحكم إلاّ بما يعلمه مما تبدونه ما لم أكشف له الباطن وآمره فيه بأمري، وهذه أيضًا ناظرة إلى قوله تعالى: {بلّغ ما أنزل إليك من ربك} [المائدة: 67]. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى لما قدم الترهيب والترغيب بقوله: {أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب وَأَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 98] أتبعه بالتكليف بقوله: {مَّا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ} يعني أنه كان مكلفًا بالتبليغ فلما بلغ خرج عن العهدة وبقي الأمر من جانبكم وأنا عالم بما تبدون وبما تكتمون، فإن خالفتم فاعلموا أن الله شديد العقاب، وإن أطعتم فاعلموا أن الله غفور رحيم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال ابن عطية:

قوله تعالى: {ما على الرسول إلا البلاغ} إخبار للمؤمنين فلا يتصور أن يقال هي آية موادعة منسوخة بآيات القتال، بل هذه حال من آمن وشهد شهادة الحق. فإنه إذ قد عصم من الرسول ماله ودمه، فليس على الرسول في جهته أكثر من التبليغ والله تعالى بعد ذلك يعلم ما ينطوي عليه صدره، وهو المجازي بحسب ذلك ثوابًا وعقابًا، و{البلاغ} مصدر من بلغ يبلغ، والآية معناها الوعيد للمؤمنين إن انحرفوا ولم يمتثلوا ما بلغ إليهم. اهـ.